المقاطعة في بريطانيا: بين الضمير الاستهلاكي والحدود الاقتصادية

"كو أوب"، التي تدير 2300 متجر وتخدم 6.2 مليون عضو، أعلنت قرارها بعد عام كامل من الدراسة الداخلية، مؤكدة أنه يستند إلى تقييمات حقوقية دولية وليس ضغوطاً خارجية. هذه التصريحات الرسمية تحاول ترويض رسالة المقاطعة، لكنها في الواقع تعترف بقوة التأثير الشعبي الذي أجبر واحدة من أكبر سلاسل التجزئة على تعديل سياساتها.
في القطاع المالي، قدمت "باركليز" نموذجاً مختلفاً للاستجابة. انسحاب البنك من رعاية المهرجانات الموسيقية تحت ضغط الجمهور والفنانين كشف عن هشاشة السمعة التجارية أمام الغضب الشعبي. رغم محاولات البنك تبرير موقفه بالحديث عن "خدمات مصرفية تقليدية"، إلا أن مئات العملاء أعلنوا قطع علاقاتهم مع البنك، في تحذير واضح للمؤسسات المالية الأخرى.
ما يلفت النظر في هذه الموجة هو تحولها من فعل فردي إلى حركة مؤسسية منظمة. شركات مثل "لاش" لم تكتفِ بإغلاق متاجرها تضامناً مع غزة، بل حولت التضامن إلى جزء من هويتها التجارية، حيث حقق "صابون البطيخ" الخيري نجاحاً غير مسبوق. هذه الظاهرة تثبت أن البعد الأخلاقي يمكن أن يصبح استراتيجية تسويقية ناجحة في زمن يزداد وعي المستهلكين.
البدائل المحلية تشكل وجهاً آخر لهذه الحركة. مطاعم مثل "البيت الفلسطيني" شهدت إقبالاً غير مسبوق، بينما ظهرت علامات تجارية جديدة مثل "غزة كولا" و"لبيك كولا" رغم أسعارها الأعلى. هذه الظواهر تشير إلى ولادة اقتصاد موازٍ يقوم على القيم الأخلاقية، وإن كان لا يزال في مراحله الأولى.
لكن التحديات لا تزال كبيرة. غياب البيانات الدقيقة عن تأثير المقاطعة على مبيعات الشركات المستهدفة يجعل من الصعب قياس الفعالية الحقيقية للحركة. كما أن الطبيعة اللامركزية للمقاطعة الشعبية تجعلها عرضة للتراجع مع الوقت، خاصة في غياب إطار مؤسسي داعم.
القضية الأكثر تعقيداً تكمن في الإطار القانوني. الطعون القضائية الجارية قد تحدد مستقبل حركة المقاطعة، حيث تحاول السلطات الموازنة بين حرية التعبير والمخاوف الأمنية. هذا الصراع القانوني سيحدد ما إذا كانت المقاطعة ستبقى ضمن حدود التعبير السلمي أم سيتم تقييدها.
موجة المقاطعة في بريطانيا تثبت أن المستهلك لم يعد مجرد متلقٍ سلعي، بل أصبح فاعلاً أخلاقياً قادراً على تغيير سياسات الشركات الكبرى. النجاح الحقيقي لهذه الحركة لن يقاس بعدد المتاجر التي أغلقت أو المنتجات التي تمت مقاطعتها، بل بقدرتها على خلق تحول دائم في وعي المستهلك وسلوك الشركات، وتحويل الغضب الأخلاقي إلى تغيير اقتصادي ملموس.