زياد الرّحباني ... الرّحيل الصّامت لـعبقريٍّ صاخِب

July 27, 2025360 بازدیدهازمان مطالعه: 5 دقیقه
زياد الرّحباني ... الرّحيل الصّامت لـعبقريٍّ صاخِب
رحلَ زياد ..
عبارةٌ واحِدة هزّت أوتارَ قلوبِنا كما تهزّ نغمة "سألوني الناس" أو تنهيدةٌ ساكنة في خشبةِ مسرحٍ تغصُّ بالناس ، مُنتظرةً سُخريةً عاقِلة تخرجُ مِن فمِـه .. أو عزفٌ حزينٌ يوقِظُ فينا شوقًا لـوطنٍ لم نعشـهُ يومًا كما يجِب .

في صباحِ يوم السبت السادس والعشرين من تموز 2025 ، أُسدِلَ الستارُ الأخيرُ عَن حياةِ زياد الرّحباني ، الموسيقي ، المسرحي ، الكاتِب ، الناقِد ، والعاشِقُ العنيفُ للحقيقة .
رحلَ عَن عُمرٍ يُناهز 69 عامًا ، بعدَ مُعاناةٍ معَ المرض ، لكنَّ معاناتهُ الأعمَق كانَت مع وطنٍ ينزِف ، ومع زمنٍ لا يتّسعُ للصدق ، ومع موسيقى لا تنتمي إلى السّوق .

ابنُ السيدةِ فيروز ، وسليلُ مدرسةِ الرّحابنة ، لكنّهُ اختارَ أن يكونَ « زياد » لا « ابنَ عاصي » ، أن يشقَّ طريقًا لا يُعبَّد بالمَجدِ العائلي وحدَه ، بل بالتمرُّد ، بالـشّـك ، بالأسـئلةِ الكبيرةِ التي لا تحتملُ الأجوبةَ الصّغيرة .

منذُ نعومةِ أظافره ، بدا أنَّ في داخلِـهِ شـيئًا غيرَ عادي .. كانَ والدُه ، الرّاحِل عاصي الرّحباني ، يَستشيرُهُ في الألحان مُذ كانَ في السادسة .
وعندَما بلغَ السابعةَ عشرة ، قدّمَ أولَ لحنٍ لـوالدتِـه ، لـيولدَ بذلك العمل الخالد : "سألوني الناس" ، الذي لحّنَهُ لـفيروز أثناءَ مرضِ والدِه ، فكانَ كما لو أنهُ ترجمَ غيابَ الأبِ بأنينٍ موسيقيٍّ عابرٍ للأجيال . 
وما لم يُعرَف كثيرًا أنَّ اللحنَ أعدّهُ أصلًا لـ مروان محفوظ ، لكنَّ منصور الرّحباني _عمّـه_ قرّرَ أن يحملَ صوتُ فيروز هذا الحُزن ، لـتقول : "لأوّل مرّة ما بنكون سوا" ... وكأنّها تُغنّيها الآن لنا ، ولابنِها .

رحلةُ زياد لم تكُن نُزهةً فنّية ؛ كانَت حَربًا ، خاضَها ضدَ السّطحية ، وضدَ الطائفية ، وضدَ القوالب . 
كانَ ناقِدًا شـرِسـًا للمُجتمعِ اللبناني ، سـاخِرًا مِن عاداتِـه ، مُتمرّدًا على مسرحِ الرّحابنة التّقليدي ، مُؤمنًا بأنَّ الفنّ لا يُجمّلُ الواقِع بل يُعرّيـه .
 مَسرحيّاتُه "سـهرية" (1973) ، "نزل السرور" (1974) ، "بالنّسبة لبكرا شو ؟" (1978) ، "فيلم أميركي طويل" (1980) ، "شي فاشل" (1983) كانَت كُلّها بمثابةِ شـظايا حارِقة في قلبِ واقعٍ لُبناني مُتـشـظٍّ .. وحضورُهُ الفنّي كأنّما هو الضّميرُ القومي في جَسدٍ مُتعَب .

لم تكُن أعمالُـهُ مُجرّدَ مسرحٍ سـياسـي ؛
بل مسرحٌ وجداني ، سـاخِر ، لاذِع ، يُفكّكُ الخِطاباتِ الجَوفاء بـضحكة ، ويُعيدُ بناءَ الوعي بجُملةٍ ذكيةٍ أو عتابٍ عَلى لِسانِ مَجنون .
ففي "فيلم أميركي طويل" ، اختارَ مُستشفى الأمراض العقلية ليجعلَ منهُ مرآةَ المجتمع ، وكأنَّ كُلَّ الوَطن أُصيبَ بجنونِ الحَرب .

"زياد" ليسَ مُجرّدَ كاتِبٍ أو مُلحّن ؛ 
بل صَوتٌ ، حُنجرةٌ تُشبهُ الغضبَ والحنينَ والخذلانَ في آن .. مِن "الحالة تعبانة" ، إلى "دلّوني عالعينين السّود" ، و "بلا ولا شي" ، و "عايشة وحدا بلاك" ، و "البوسطة" ، عبّر زياد عن هواجِسِ جيل ، بل عَن خَيباتِ وطنٍ بأكملِه .
حتّى في الجاز ، الذي مزجَـهُ بالموسـيقى الشّرقية ، كما في ألبومِـه "هدوء نـسـبي" ، وضعَ بصمتهُ الخاصّة ، ليجعلَ منَ الصّمتِ خلفَ النوتةِ موسـيقى بحدِّ ذاتِها .

وفي التّسعينيات ، كانَ لهُ الفضل في "تحديث" صوت فيروز ، وجعلِها تتكلّمُ لغةَ الناس ، لا فقَط لُغةَ الشِّعر ..
ألبومات "كيفك إنت" ، "ولا كيف" ، "إيه في أمل" ، كانَت انعطافةً جديدةً في مسيرتِها ، لكنّها أيضًا كانَت انعكاسـًا لـزياد : التّمرُّد ، اللّحن العَميق ، الكلِمة المُعبّرة بلا رتوش .

حياتُهُ الشّخصية لم تكُن سـهلة ، فـقَد عاشَ زياد في صراعاتٍ كثيرة : سـياسـية ، عائلية ، وفكرية .
 ومِن أوجعِ محطّاتِه ؛
القطيعةُ التي اسـتمرَّت عامين مع والدتِهِ فيروز .. قطيعةٌ أنهَتها مُكالمةٌ صامِتة استخدمَ فيها أسلوبَها هي : اتصلَ بها وسـكَت ، فـقالَت "ألو" ، فـأجاب "وأخيرًا" .
عادَ الحَنانُ إلى مَجراه ، وعادَتِ السّيدةُ التي أنشدَت "كان الزّمان وكان" إلى حضنِ ابنِها الّذي خلقَ لها زَمانًا فنيًا جَديدًا .

زياد لم يكُن ماديًا ، لم يَـسـعَ وراءَ شُهرةٍ أو مال ؛
كانَ مُثقفًا عضويًا ، كما وصفَهُ كثيرون .. يحفظُ الوقتَ كـكنز ، فـيضعُ سـاعاتٍ في كُلِّ غُرفة .. لم يكُن ينامُ أكثَر من سـاعتين في اليَوم ؛ فالزمنُ بالنسبةِ له فُرصةٌ لا تُعوّض ، سرقتهُ الحَربُ مِن شَـعبِه ، وأرادَ اسـتعادتَـهُ بالمـسـرحِ والموسـيقى .

ومع رحيلِ الاتّحادِ السّوفييتي ، وخفوتِ وهجِ اليسارِ العربي ، ومع تراجعِ الأمل ، أُصيبَ زياد بجُرحٍ وجودي .. قالَ الإعلامي زافين قيومجيان : " ماتَ زياد أوّلَ مرّة في نهايةِ الثمانينيات .. كُلُّ ما تلاها كانَ ظِلالًا " . 
تلكَ الظّلال ظلَّت مُتألقة ، لكنّها كانَت تبحثُ عَن حُلم سَـقطة ، وعَن وَطنٍ مَزّقتـهُ الطّوائف .

في سـنواتِـهِ الأخيرة ، انسحبَ منَ الـسّـاحة ، عانى صحيًا ونفُسـيًا ، و راودَهُ الاكتِئاب ، بَل فكّرَ في الاعتِزال .. 
لكنّهُ عادَ للحياةِ بفعلِ الموسـيقى ، و وقّعَ عقدًا مع مهرجانات بيت الدين عام 2018 ، ليُقدّمَ اسـتِعراضًا اسـتثنائيًا لأعمالِـهِ وأعمالِ عائلتِـه ، وسطَ فرقةٍ ضَخمة ، ولمُدةِ سـاعتينِ مِنَ الفرحِ والحُزنِ والجنونِ الجَميل .

زياد لم يكُن فنّانًا عاديًا ؛ 
كانَ حالة .. حالةً لُبنانيةً خالِصة ، عَنيدة ، حُرّة ، لا تُصنَّفُ ولا تُختَزل . 
حملَ في قلبهِ بيروت كما لم يحمِلها أحَد .. وجعلَ منَ اللحنِ جَريدة ، ومِنَ المَسرحِ منبرًا للحَقيقة ، ومنَ الأُغنيةِ سـاحةَ نِقاش ، ومِن صوتِـهِ جرسَ إنذارٍ دائم .

واليوم ، إذ يَمضي زياد إلى "وادي النّوم" ، كما قالَ صديقُهُ عبيدو باشا ، فلا موتَ على الحقيقة ، بل استراحةُ مُحاربٍ أنهكَهُ الحُلم .

رحلَ زياد ، لكنَّ موسيقاه لا ترحَل ، ومسرحُهُ لا يُطفَأ ، وكلماتُهُ باقية :
" أنا مـش كافر ، بـس الجوع كافر ، والذّلّ كافر ، والمرَض كافر ، والنّاس اللي سـاكتين كافرين ... " .

سـلامٌ على مَن قالَها ، وعاشَـها ، وماتَ دونَ أن يكفرَ بـفنِّـه ...

اشتراک گذاری خبر